Wednesday, July 31, 2013

البوصلة القرٱنية ـ الباب الثاني

 

الباب الثاني:  أمس و اليوم و غدا

ينقسم هذا الباب إلى فصلين، يخصص الكاتب الفصل الأول للحديث عن الماضي و بالذات اللحظة التاريخية التي كانت سبب تدهورنا. أما في الفصل الثاني فينتقل للحديث عن الحاضر و المستقبل عبر تفصيل أطوار النهضة استنادا إلى القرآن.

الأمس المستمر
النهضة تولد من لحظة

كل تغيير في هذا العالم يولد من لحظة، فلحظة الصراع بين الكنيسة و العلم مهدت للنهضة الأوربية، و لحظة استسلام اليابان بعد الحرب العالمية الثانية كانت و كما لم يكن متوقعا حافزا للتقدم من جديد. أما نحن، فبدل أن نتوقف و نستفيد من لحظاتنا المجيدة كلحظة بدر أو فتح مكة أو اليرموك، توقفنا عند لحظات تخلفنا و تجمدنا عندها.

بداية السبات

بعد لحظة الفتح، ظهرت في المجتمع الإسلامي فئة "الطلقاء"، و صحيح أنها تقلدت المناصب بعد ذلك، إلا أنها ظلت خاضعة لمراقبة شديدة و صارمة خاصة من طرف عمر بن الخطاب، لكن عمر اغتيل و لم تعد هذه المراقبة كما كانت و هذا ما فتح الباب أمام الفتنة. لحظة الفتنة هذه و للأسف هي اللحظة التي توقفنا عندها، فبعد صعود الأمويين إلى سدة الحكم، بدأت القيم تتغير و ابتعدنا عن مقاصد الدين و روحه.

و قبل الخوض في تفاصيل هذه اللحظة، يذكر الكاتب أنه من الخطأ غض الطرف عن هذه المرحلة  و محاولة التغاضي عن مساوئها، بل على العكس من ذلك، يجب مواجهة تاريخنا و الاستفادة من إخفاقاتنا السابقة و مناقشة الظروف التي أوصلتنا إلى حالة التخلف التي نعيشها.

محفزات الجمود

يستند الكاتب إلى نصوص تاريخية ثبتت صحتها و ورد أغلبها في صحيح البخاري و على لسان أشخاص ثقات كعبد الله بن عمر، ليثبت أن عصر معاوية و من بعده من الأمويين كان أبعد ما يكون عن قيم و مبادئ الإسلام التي حاول الخلفاء الراشدون تطبيقها، و يخلص الكاتب من هذه النصوص إلى ثلاث مظاهر تميز هذا العصر ألا و هي :
1. الجبر و استخدام سلاح القضاء و القدر لتثبيت سطوة الدولة و الحكم، حيث فسر معاوية انتصاره على علي بقضاء الله الذي لا مرد له و يجب قبوله. و مفهوم الجبر هذا ساهم بنشر روح الاستسلام للحوادث التاريخية عموما باعتبارها من صنع الله، كما أنه ألغى عملية البحث عن الأسباب، كيف لا و كل الأسباب ترجع مرة واحدة إلى الله.

2. الاستبداد : فالأمويون عمدوا إلى بث الرعب و الخوف في نفوس معارضيهم و خصومهم، مما أدى إلى قتل فكرة الشورى و إجهاض عقيدة التساؤل.

3. توظيف النصوص الدينية و اجتزاؤها من سياقاتها الأصلية، حيث عمدت السلطة الأموية إلى استخدام آيات قرآنية و أحاديث نبوية عبر إخراجها من سياقها الأصلي حتى تعطي شرعية لتقلدها الحكم، و قد أدت هذه الانتقائية إلى إغفال البعد المقاصدي لهذه النصوص و غيرها و التعامل معها كنصوص مطلقة.

و يذكر الكاتب أن الهدف من تفصيل هذه المرحلة ليس الانتقاص من معاوية أو توجيه الاتهام له، بل يجب الاعتراف أنه كان إداريا ممتازا أدخل إصلاحات إدارية في الدولة الإسلامية، و لولا ذلك لما كان عمر ولاه على الشام، كما أن معاوية أفضل من غيره من الحكام الذين عرفوا بجهرهم بالفاحشة. و لكن الانتقاد و التقييم هنا يتم من وجهة نظر قرآنية بحتة و مقارنة بالمبادئ و القيم التي نادى بها الإسلام، و هذا ضروري إذا أردنا أن نستفيد من تاريخنا و أخطائنا كي ننهض بهذه الأمة التي عانت الكثير من جراء هذا اللحظة.

و من أهم النتائج السلبية التي ورثتها الأمة هي الخلاف حول مرتكب الكبيرة، فبداية الأمر كانت سياسية محضة، حيث لم يعرف العلماء و العامة ما يفعلونه مع حاكم يقترف الكبائر، هل يطيعونه و يصبرون عليه، أم يثورون عليه و يخالفونه، و لذلك ظهرت فرق عديدة منها من كفر هؤلاء الحكام و منها من أقر له بالإيمان كالمرجئة الذين فصلوا العمل عن الإيمان. و قد أدى هذا الخلاف إلى تدهور في المجتمعات الإسلامية، إلى أن تمت إعادة صياغة تعريف الإيمان على يد أهل السنة و الجماعة، الذين اعتبروه خضوعا بالجنان، و إقرارا باللسان و عملا بالأركان، مع أنهم بذلك حدوا من مساحة العمل و حصروه في العمل بالشعائر فقط.

استمرار الجمود

و للأسف، استمرت هذه المظاهر حتى مع الحكم العباسي، حيث عملت آلية وضع النصوص على اختلاق أحداث عن عمر أو إخراجها من سياقها، تظهر فيها أعمالا استبدادية معينة، و لم يكن الهدف من هذه النصوص التقليل من شأن عمر بقدر ما كان الهدف إعطاء شرعية لأعمالهم الاستبدادية، و قد جعل هذا محبي عمر يستسلمون للظلم و الاستبداد و جعل من يكرهونه من الشيعة يستغلون هذه النصوص لزيادة الكراهية في نفوس تابعيهم.

الرد على بعض الأسئلة

في نهاية هذا الجزء، حاول الكاتب الرد على ما يسميه بالأسئلة التقليدية التي قد يطرحها البعض ليشكك في كون هذه المظاهر هي السبب في تخلفنا عن ركب الحضارات. فالبعض مثلا يتساءلون كيف يكون الاستبداد قد أدى إلى تخلفنا في حين كان هو المحفز الأساسي في نهضة أوربا، و هنا يجيب الكاتب أن أسباب التخلف عندنا مختلفة عن مثيلتها في أوربا فهي شديدة الاختباء و تستغل الدين ليكون غطاء لها، مما يصعب عملية استئصالها من النفس و المجتمع.  و آخرون يتساءلون بماذا نفسر الاكتشافات العلمية و الإبداعات الأدبية التي عرفها المسلمون في عصور الاستبداد،  و الإجابة هذه المرة كانت أن شحنة الإيمان و الإيجابية التي بثها الإسلام كانت أقوى من أن تندثر في أعوام قليلة و هي التي شكلت هذه الاندفاعة القوية، و لكنها سرعان ما تلاشت عندما امتزجت بقيم الظلم و الجبر و توظيف النصوص.

و هذه القيم البعيدة عن روح الدين ما زالت و للأسف منتشرة في زمننا هذا، فالأمة التي كان أول ما أوحي إليها "ٱقرأ"، تبين الإحصاءات أنها في آخر السلم من حيث القراءة و الكتابة و الترجمة، كما تسجل فيها أعلى نسب للأمية.

مشروع النهضة من البذرة إلى التمكين

يقدم الكاتب في هذا الفصل وصفة جديدة للنهضة، وصفة تستقي مراحلها و أطوارها من سورة قرآنية واحدة، سورة سنت قراءتها في كل أسبوع كمراجعة لمشروعنا النهضوي، إنها سورة الكهف. و من هذه السورة يستخرج الكاتب من كل قصة من القصص الأربعة خصائص لمرحلة من مراحل النهضة.

قصة الفتية


إن هذه القصة تمثل أولى مراحل التغيير و هي مرحلة الفكرة، فالفتية آمنوا بالله و وحدانيته مما جعلهم يستنكرون الظلم و الفساد الذي يعيشه مجتمعهم، و يحلمون بنشر قيم العدل و الحرية، و لكنهم بفكرهم هذا كانوا يغردون خارج السرب، و لم يجدوا من يساندهم لنشر فكرتهم، فآثروا الاعتزال في الكهف خوفا على فكرتهم التي لم تتعدى طور الجنين من أن تجهض أو تشوه، و قد كان قرارا حكيما واعيا و تكتيكا مدروسا، فالمواجهة أحيانا قد تؤدي إلى قتل الفكرة و لن يكون طائل من ورائها، و من الذكاء تحين الوقت و الظروف المناسبين الذين يتفاعلان مع الفكرة لتعطي نهضة حقيقية.

و هنا يسقط الكاتب قصة الفتية على واقعنا المعاصر الذي عرف ثورات شبابية عديدة و لكنها للأسف كانت ثورات يغلب عليها طابع الاستعجال و الحماسة الزائدة بدل الصبر و العنف بدل التلطف مما أدى في الكثير من التجارب إلى قتل الفكرة في مهدها.

صاحب الجنتين


و بعد مرحلة الفتوة، تأخذنا السورة إلى طور الاستحالة الثاني المتمثل في قصة صاحب الجنتين، و في هذه القصة حوار بين رجل مؤمن و رجل كافر، و هذا يدل على أننا انتقلنا من مرحلة الاعتزال إلى مرحلة المواجهة و لكنها ليست مواجهة تغلب عليها الحماسة و العاطفة، بل مواجهة أكثر قوة و ثباتا. إنها مرحلة تحديد الثوابت التي جعلت الرجل المؤمن يحس بالمسؤولية و يحاور الرجل الكافر و يدحض حجته، فبينما يفتخر الكافر بما يملك من مال فان، يتمسك المؤمن بإيمانه بوحدانية الله و قدرته.

إن مرحلة الثوابت من أهم مراحل الاستحالة، لأن عدم وجود ثوابت و حدود واضحة قد تعرض الفكرة للقتل و قد تنفذ إليها أفكار أخرى أكثر قوة فتصادرها. و هذا ما يحدث اليوم حينما تمرر بعض القيم و الأفكار الغربية في وسط أفكار نهضوية، أو تستغل بعض الجهات القوية الثورات لتطبيق أجندتها.

موسى و العبد الصالح


إن هذه القصة تمثل التطور المنطقي لأي فكرة جديدة، فبعد تكون الفكرة و الحفاظ عليها و بعد تحديد الثوابت، تأتي مرحلة التطبيق، أي النزول بالفكرة من النظرية إلى الواقع و تفاعلها مع المجتمع و الناس. و في هذه المرحلة أيضا انتقال من الرؤية الجزئية للحقائق و الأحداث و النصوص إلى الرؤية الشمولية التي تجعلها تثمر و تنتج واقعا جديدا.

ففي هذه القصة لم يكن موسى يسعى وراء العلم النظري بل كان يبحث عن تجارب حقيقية واقعية يكمل به العلم الذي اكتسبه و يفعله و يفهم من خلاله الواقع، و هذا بالضبط ما قدمه له العبد الصالح. فمن خلال قصص السفينة و الغلام العاق و الغلامين اليتيمين، اتضح لموسى كيف أن الرؤية التجزيئية قد تؤدي إلى نتائج سلبية و لو كان ظاهرها إيجابيا، أما النظرة الشمولية فهي ترتبط بالنسيج الاجتماعي و تتفاعل معه لتدل على القرار الصائب الذي يجب اتخاذه.

و لا يجب أن يفهم من هذا أن فقه النهضة عليه أن يعطل النصوص و إلا لكنا اعتبرنا عمر معطلا لحد السرقة، بل إنه يجب أن يكون فقها مقاصديا ينظر إلى النص في مجمله و يتماشى مع روح الدين.

ذو القرنين


إن هذه القصة و هي الأخيرة في سورة الكهف، تمثل ذروة الرحلة، فبعد أن تنطلق الفكرة من كهف صغير يمكن لها أن تكبر و تنمو حتى تصير حضارة تنير العالم. و القرآن هنا يقدم لنا مثالا حيا لحضارة التوازنات، العقل و الروح، القوة و العدل، الدنيا و الآخرة، إنها حضارة ذي القرنين التي تمكنت من الأسباب و العلوم حتى عم تأثيرها الإنسانية جمعاء و العالم بأسره من مشرقه إلى مغربه.

و في هذه القصة يقدم الخطاب القرآني أمثلة لحضارات فاشلة و كيفية تعامل ذي القرنين معها حتى تكون عبرة لنا. ففي مغرب الشمس  وجد ذو القرنين حضارة آفلة تغرب في عين حمئة و هي إشارة إلى انهيار الأخلاق و انتشار الفساد، فإنقاذ حضارة كهذه لم يكن ممكنا إلا بنشر العدل و سيادة القانون و القيم السماوية.

أما مشرق الشمس فترمز إلى حضارة في طور البزوغ، عند النقطة الحضارية صفر، و هي مرحلة سابقة للاستقرار، فسيادة القانون هنا لم تكن لتثمر شيئا لأن القيم لم تحدد بعد، فالحل إذن كان الاستقرار المدني أولا.

أما بين المطلع و المغرب فقد وجد ذو القرنين قوما حبسوا أنفسهم بين سدين، فأصبحوا منغلقين على العالم غير قادرين على التواصل إلا أنهم يرغبون في التغيير لأنهم قرروا التخلص من يأجوج و مأجوج المفسدين في الأرض. و كان بوسع ذي القرنين أن يعينهم و يذهب إلى حال سبيله، و لكنه آثر أن يحسسهم بالمسؤولية تجاه مشاكلهم و يشركهم في حلها فكرس بذلك التوازن بين أداء الواجب و الحصول على الحق.

و يختم الكاتب هذا الفصل بإسقاط شخصي لمراحل استحالة الفكرة، فسورة الكهف تخاطب كل واحد فينا، كل واحد له مشروع نهضة شخصي يمكن أن يقلل من شأنه و يستصغره، في حين يمكن أن يعتبره جزأ في المشروع الكبير. قد نكون في مرحلة أولئك الفتية الذين اعتزلوا ليحافظوا على فكرتهم، أو في مرحلة الرجل المؤمن الذي يحاول التمسك بثوابته في ظل المغريات، أو في مرحلة العبد الصالح الذي يحاول تطبيق الرؤية الشمولية للنصوص على الواقع، أو قد نكون مثل ذي القرنين في مرحلة المسؤولية و تغيير العالم، المهم أن سورة الكهف هنا دائما لتعيننا على تقييم إنجازاتنا و متابعة مشروع نهضتنا و لو كان صغيرا.

تقييم

بما أنه كان مقررا أن أقرأ "البوصلة القرآنية" في هذا العام على كل حال، فإني لم أجد خيرا من شهر القرآن لقراءته طامعة في أن أجد في هذا الكتاب معاني و أفكارا جديدة  تعينني على فهم القرآن أكثر و تذوقه أكثر، خاصة مع معرفتي بكاتبه ذي الأسلوب الشيق و الطرح المتجدد. و في الحقيقة لم يخذلني الكاتب هذه المرة أيضا، فكعادته عمد العمري إلى وضع الأفكار التقليدية و البالية عن القرآن جانبا، لينطلق في رحلة فريدة من نوعها إلى أعماق هذه المعجزة و يكشف لنا عن أسرار جديدة بين أسطرها و يستخرج منها كنوزا نمر عليها مرارا و تكرارا و لكننا لا نكاد نراها.

لقد كان هم الكاتب الأساسي من وراء البوصلة أن يجد الوصفة السحرية الكامنة في القرآن و التي جعلت مجتمع الجاهلية يتحول في أعوام معدودات إلى حضارة وصل شعاعها إلى العالم بأسره، و من أجل ذلك قام الكاتب بعملية تنقيب معقدة لاستنباط عناصر الخطاب القرآني التي ساهمت في هذه الطفرة التاريخية، و بعملية تشريح دقيق لماضينا تحرى فيها الحياد و النزاهة لاكتشاف العوامل و الظروف التي أدت بنا إلى الابتعاد عن روح القرآن و جعلتنا نتخلف عن ركب الحضارات، و في النهاية حاول الكاتب إيجاد معادلة النهضة الكفيلة بإيقاظنا من السبات الذي نعيش فيه و بشحن عزيمتنا و دفعنا لتدارك ما فاتنا.
 
و شخصيا أعتقد أنه حتى لو لم يكن الكاتب قد استطاع فك رموز هذه المعادلة كليا، إلا أنه اقترب من ذلك إلى حد كبير و الأهم من ذلك أنه فتح آفاقا جديدة للتأمل و طرح  إشكاليات جديدة للتفكير و الدراسة و قدم لنا رؤى مختلفة للقرآن و الواقع. و مع أني قد أتحفظ قليلا من التفسيرات التي يقدمها الكاتب لبعض النصوص، إلا أن هذا لا ينقص من قيمة الكتاب و المجهود الجلي الذي قام به الكاتب، لذلك فهو يستحق بجدارة 5/5.

آمال

البوصلة القرٱنية ـ الباب الأول


دار النشر : دار الفكر
عدد الصفحات : 468


ينقسم الكتاب إلى بابين، و نظرا لوفرة الأفكار في هذا الكتاب، قررت نشر الملخص على مرحلتين، و في هذه المرحلة سأكتفي بأفكار الباب الأول.

الباب الأول: عناصر الخطاب الإسلامي أساسية لكن مفقودة

في مقدمة هذا الباب، يدعونا الكاتب إلى الرجوع بالزمن إلى الوراء أربعة عشر قرنا و التأمل في أعظم تغيير حصل في هذا العالم، هذا التغيير الذي جعل ثلة من الناس يعيشون في نقطة منسية من العالم يبنون حضارة لا تنسى و يحكمون بقاعا عديدة من الأرض في وقت قياسي. إن السبب الرئيسي لهذه الطفرة من وجهة نظر الكاتب هي نزول القرآن، كلام الله الذي أعجز العالم كله ببيانه و فصاحته و تحدى المجتمع الجاهلي بقيم جديدة و أفكار ثورية.

من هنا، خلص الكاتب إلى أن الخروج من الواقع المظلم الذي تعيشه الدول الإسلامية رهين بدراسة القرآن بعيدا عن التفسيرات التقليدية و الإبحار في معانيه و استخراج القيم و المبادئ الذي جعلت منه قادرا على بعث الحياة في مجتمع ميت و على بناء نهضة و حضارة.

و في هذا الفصل، ركز الكاتب على أربع قيم حث عليها الخطاب القرآني و هي التساؤل و البحث عن الأسباب و الإيجابية و الحس المقاصدي.

التساؤل

التساؤل وسيلة للتغيير

بينما كانت الأديان السماوية السابقة تقدم أجوبة بسيطة تناسب ذهنية الناس الذين بعثت لهم، و تأمرهم بالتوحيد و حسن معاملة الناس و أداء بعض الشعائر البسيطة، جاء الإسلام و هو الدين الخاتم ليخاطب النضج و الوعي الذين وصلت إليهما البشرية، فلم يأت ليعمل عمل حبة الفاليوم التي تريح الناس من تساؤلاتهم و شكوكهم، بل جاء ليخاطب العقل و يستنهضه و يحفزه ليتساءل و يبحث عن الأجوبة الشافية التي تشبع فضوله.

كان مجتمع الجاهلية يرتكز على نظام قبلي بدائي يشجع الظلم و الاستبداد و يفرق بين فئات المجتمع، و لزلزلة نظام كهذا و تغيير قيمه كان لابد من التساؤل. و لكن ليكون لهذا التساؤل وزن و تأثير قوي كان يجب أن ينطلق من قاعدة مشتركة، لذلك كان النموذج الذي اختاره الخطاب القرآني لطرح التساؤل هو إبراهيم عليه السلام، الذي ينسب إليه العرب جميعا و يحتل مكانة مميزة عند جميع الأديان.

التساؤل الإبراهيمي

إن ليلة التساؤل الإبراهيمي كانت ليلة أشرق فيها العقل، فحوار إبراهيم مع أبيه و قومه و مع الكون و من ثم مع نفسه معتمدا على العقل و المنطق أدى به إلى الإجابة الحتمية و الفطرية و هي وجود خالق ذو حكمة وعظمة و قدرة تفوق الجميع. و لم يتوقف إبراهيم عليه السلام عند هذا الحد فقط، بل تساءل أيضا عن كيفية إحياء الموتى، و مثل ذلك سؤال موسى أن ينظر إلى الله عز و جل، و هي كلها حوادث تدل على مشروعية التساؤل و أهميته في ديننا، ففي حالتي إبراهيم و موسى، لم يكن الرد وعيدا أو عقابا إلهيا بل كانت أجوبة تستدرج العقل و تدربه على المشاهدة و التجربة و الاستنتاج ليصل إلى النتيجة بنفسه.

نحن أحق بالشك من إبراهيم

قال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم ‏:
نحن أحق بالشك من ‏ ‏إبراهيم ‏ ‏ »إذ قال رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي « ويرحم الله ‏‏لوطا ‏‏لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن طول ما لبث ‏‏يوسف ‏‏لأجبت الداعي.

أعطى الكاتب مساحة كبيرة لهذا الحديث و هو حديث صحيح ورد في الصحيحين، إلا أن الكاتب يعتقد بأن الحديث فسر بشكل غير دقيق، ففي الوقت الذي يعتبره الفكر التقليدي دليلا على عصمة الأنبياء و نفيا للشك في حقهم، يأخذ الكاتب بالمعنى الحرفي للحديث ليؤكد مشروعية الشك و التساؤل في الدين، و المقصود هنا ذلك الشك الإيجابي البناء و التساؤل الفعال الذي يصير منهجية تفكير و طريقة حياة.

التساؤل في القرآن

إن التساؤل في القرآن كان بمثابة معول هدم للأفكار المتوارثة البالية و توطيدا لأفكار جديدة على المجتمع، و من هذه الأفكار:
  1. إرساء عقيدة البعث و الحساب في مجتمع كان يظن الإنسان حائلا إلى تراب. 
  2. التأمل في خلق الإنسان و بث الحياة في الزرع و إنزال الماء و إذكاء النار، أي في المنظومة كلها التي تجعل الإنسان قادرا على العيش. 
  3. الانفتاح على حضارة الآخرين، حيث أمر الله رسوله بسؤال بني إسرائيل، إلا أن هذا الانفتاح يجب أن يكون بضوابط و محددات و ثوابت.

كما يحتوي القرآن على تساؤلات أخرى كثيرة، و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن التساؤل في الإسلام ليس تساؤلا مؤقتا ينتهي بإيجاد إجابة و يختفي، و إنما هو تساؤل مستمر يجدد به الإنسان إيمانه و يمنعه أن يكون مجرد يقين متوارث.

التساؤل في الفكر التقليدي

لقد عمدت المدرسة التقليدية، من وجهة نظر الكاتب، إلى إظهار الدين كوسيلة للراحة النفسية التي تشجع على سلبية في التفكير و تعطيل للعقل، و روجت للمعجزات الحسية المعتمدة على الإبهار و الدهشة.

كما قام الفكر التقليدي بمحاربة التساؤل و قمع الشك و تأويل للآيات على النمط الذي يوافق مذهبهم، فنفوا تماما أن يكون حوار إبراهيم مع نفسه شكا، و زعموا أن تساؤله كان على سبيل الإنكار أو أنه قاله في طفولته و قبل قيام الحجة عليه.

و الأكثر من ذلك هو أن الفكر السائد أجهض كل محاولة للسؤال بجعله مرتبطا بالبدعة التي تجرنا إلى الضلالة ثم إلى النار، و هذه النظرة مخالفة تماما للخطاب القرآني الذي يرسخ و يكرس روحية التساؤل.

البحث عن الأسباب
مفهوم اتباع الأسباب

بعد ترسيخ قيمة التساؤل التي تعمل على هدم الأفكار و القيم الموروثة و البالية، فإن الخطاب القرآني يقترح آلية جديدة للبناء، ألا و هي اتباع الأسباب أو الارتقاء في الأسباب. و انطلاقا من سورة الكهف و بالضبط قصة ذي القرنين، فإن الكاتب يفسر اتباع الأسباب بالسعي وراء تحصيل العلم، و ليس المقصود هنا العلم الشرعي بل كل العلوم الإنسانية التي تسخر نعم الله و مخلوقاته لخدمة البشرية و تحسين ظروف عيشها.

ثلاثية الطبيعة، الفرد، المجتمع

اتباع الأسباب في القرآن يشمل ثلاث مجالات مترابطة فيما بينها و هي الطبيعة و الفرد و المجتمع.

و اتباع الأسباب ينطلق من الطبيعة كما في التساؤل الإبراهيمي، حيث يدعونا القرآن إلى إعمال العقل عند التأمل في الطبيعة، و العقل هنا ليس حالة أخلاقية شعورية كما كان معروفا لدى العرب في الجاهلية و إنما معناه الربط بين الظواهر الطبيعية و مسبباتها و غاياتها و استخلاص النتائج منها.

ثاني مجال لاتباع الأسباب هو المجتمع، حيث قص علينا القرآن قصصا لحضارات سابقة قامت و اندثرت و بين لنا العلاقة بين منظومة القيم و المبادئ السائدة فيها و بين المصير الذي آلت إليه.

أما المجال الثلاث للبحث و الدراسة فهو النفس البشرية بكل ما تزخر به من تعقيدات و خصائص تجعل منها السبب الرئيسي لتغيير المجتمع.

السببية

كما في التساؤل، قامت "المؤسسة" بإجهاض مفهوم السببية بأن جعلت كل فعل مسندا إلى الفعل الإلهي و اعتبرت كل ما في الكون مجرد عادة يمكن أن تكون أو لا تكون و ليس له أسباب موجبة، فالإمام الغزالي مثلا لم يعتبر النار موجبة للاحتراق و كتب عن ذلك الكثير. و  قد أدى هذا إلى تعطيل المنطق العقلي الذي يرتكز على السببية و جعلنا نسد الباب أمام كل علم تجريبي و نقتله بنظرتنا الجامدة نحو الأسباب.

الإيجابية
و لا تكن كصاحب الحوت

يعزو الكاتب الطفرة النوعية و الوثبة العملاقة التي شهدتها الجزيرة العربية بعد نزول الوحي إلى قيم الإيجابية و العمل و الصبر التي بثها القرآن في النفوس، و الإيجابية في القرآن أتت منذ بدايات الوحي من خلال قصة لنبي من الأنبياء نقرأها دائما و لكننا لا ننتبه إلى المعاني العميقة التي تتضمنها، و لذلك فإن الكاتب أعطى أهمية كبرى لهذه القصة و سردها بطريقة مميزة ليلقي الضوء على كل ما تتضمنه من كنوز، إنها قصة صاحب الحوت، يونس عليه السلام.

فأول ذكر لهذه القصة كان كما يلي "فاصبر لحكم ربك و لا تكن كصاحب الحوت"، و لم يأت تفصيل القصة إلا فيما بعد، لذلك استعان الرسول صلى الله عليه و سلم بورقة بن نوفل ليسرد عليه القصة كما جاءت في التوراة.

كان يونس عليه السلام يعيش وحيدا في نينوى التي كانت تابعة للحضارة الآشورية، و هي حضارة مادية انتشرت فيها مظاهر الظلم و الاستبداد و الفساد تماما كالمجتمع الجاهلي الذي بعث فيه الرسول صلى عليه و سلم. و حين نزل الوحي على يونس، استثقل المسؤولية الملقاة على عاتقه و ظن أنه من المستحيل أن يستطيع وحده تغيير حضارة بأكملها، فقرر الفرار من نينوى و ركب البحر و في تصوره أنه قد تخلص من مجتمعه و قيمه الفاسدة إلى الأبد. و هبت العاصفة و اتفق الركاب على أن في السفينة شخصا غير مرغوب فيه أغضب الآلهة و أن الحل هو رميه في البحر لتهدأ العاصفة، و لتحديد هذا الشخص عمدوا إلى طريقة اعتباطية تعتمد على المصادفة و هي القرعة. و شاء الله عز و جل أن ترسو القرعة على يونس، الذي ظن أنه فر من هذه الأفكار و العادات الخرافية إلى غير رجعة، و لكنها حاصرته حتى في وسط البحر، و هنا أدرك يونس أن الفرار لم يكن هو الحل، لأنه إن لم يحاربهم فسوف يحاربونه في كل الأحوال. و التقم الحوت يونس و وجد نفسه وحيدا في أحشاء الحوت المظلمة، و عرف أنه ظلم نفسه باستسلامه لليأس و اختياره عدم مواجهة قومه فدعا ربه دعاء مخلصا، دعاء من أدرك الحقيقة و غير نظرته للأمور و آمن بإمكانية التغيير، فأخرجه الله من بطن الحوت، و أنبت أمامه شجرة يقطين، شجرة تدل على الأمل و التحدي و التفاؤل.

عندما نزل الأمر للرسول بأن لا يكون كصاحب الحوت، أدرك المعنى من الرسالة و فهم مغزاها و عرف أن لا مكان لليأس رغم عظم المسؤولية الملقاة على عاتقه، و أنه لا مفر من المحاولة و لو بدا التغيير مستحيلا، فكانت قصة يونس تبعث فيه الأمل و الإيمان بأن كل شيء ممكن.

حادثة أخرى ذكر الرسول فيها بيونس عليه السلام و هي يوم الطائف حيث تعرض للسخرية و الضرب بالحجارة و قد كانت فترة صعبة عليه صلى الله عليه و سلم خاصة بعد وفاة خديجة و عمه أبي طالب، و بينما هو يستريح في ظل حائط، إذا بغلام اسمه عداس يأتيه بعنقود عنب، فلما سأله الرسول عن موطنه، رد عداس "من نينوى"، فقال الرسول صلى الله عليه و سلم "من مدينة الرجل الصالح يونس بن متى"، فكان ذكر يونس في هذا اليوم بالذات محفزا للنبي و رافعا لمعنوياته.

و إن دل هذا على شيء فإنما يدل على واقعية الإسلام و إنسانية رسوله، الذي قد يصيبه الإعياء و الحزن و التعب من ثقل المسؤولية و لكن القرآن كان دائما إلى جانبه مثبتا له و شاحذا لعزيمته حتى يستطيع الاستمرار في الرسالة. و لذلك استحق أن يكون أسوة للمسلمين يتذكرون إصراره على النجاح و تحديه للصعوبات و صبره على الظروف فيواصلون العمل و يكملون مسيرتهم اقتداء به عليه الصلاة و السلام.

وفي محاولة لإسقاط قصة يونس على واقعنا، قام الكاتب بتشبيه الحوت الذي التقم يونس بالنظام العالمي الجديد المعتمد على الرأسمالية المجحفة و الذي تهيمن عليه قيم العولمة والاستهلاك و تحكمه وصايا صندوق النقد الدولي و البنك الدولي التي تؤدي بالدول إلى الإفلاس و تحاصرها كما حوصر يونس في بطن الحوت.

وسط كل هذه الظروف قد نحس باليأس و قد نود الاستسلام، و لكننا يجب أن نتذكر يونس و نؤمن بالقدرة على التغيير و المواجهة، و ذلك باقتلاع جذور السلبية و التواكل و غرس جذور جديدة من الإيجابية و الثقة بالنفس.

شيء ما استجد في جزيرة العرب

كانت الجزيرة العربية تقبع في ظروف جغرافية صعبة قد يعتقد البعض أنها قد تئد أي محاولة لبناء حضارة، و لكن هذا غير صحيح، ففي دراسة تاريخية قام بها آرنولد تويمبي بين أن الصراع بمختلف أشكاله هو السبب في بناء الحضارات، فتحدي الظروف المحيطة و الاستجابة الخلاقة لهذه الظروف هي التي تؤدي إلى تغيير و نهضة.

فإذا لم تكن الظروف البيئية هي التي أدت إلى تخلف الجزيرة العربية، فهناك عامل آخر إذن، و هذا العامل حسب الكاتب هو احتقار العرب للعمل اليدوي. فقد كانت الجزيرة العربية تعتمد بالأساس على الرعي و تجارة (الترانزيت)، و هما نشاطان سلبيان ليس فيهما إبداع، فالأول يدفع إلى الخمول و الكسل و الدعة، و الثاني يعتمد على الربح السريع دون عمل حقيقي.

ما استجد في جزيرة العرب هو نزول القرآن الذي هدم هذه التقاليد البالية و الأفكار المغلوطة عن العمل، فاستفز سكان الجزيرة بآيات مرتبطة مباشرة بكل ما هو يدوي، فالثواب و العقاب مرتبط بما تكسبه الأيدي، و الفلاح (من الفلاحة) هو نفسه الفوز و النصر، و حتى العمل سمي بالحرث (حرث الدنيا و حرث الآخرة).  كما أن الإشارة إلى خلق الله الإنسان بيديه كانت ضربة قاضية للمجتمع القرشي الذي كان يحتقر العمل اليدوي.

و قد ساهمت عقيدة التوحيد أكثر في التصدي لهذه العادات البالية، فالإيمان بإله واحد كان يعني التخلي عن تقديم القرابين للأوثان أي إلغاء المجتمع الرعوي نفسه بكل سلبياته، و كان يعني كذلك القضاء على تجارة الملأ القرشي الذي تعتمد على بيع التماثيل.

و الأهم من ذلك، أن الدين الجديد جاء ليقطع الصلة تماما مع الماضي ويلغي سلطته، ذلك الماضي الذي يكرس مبادئ الخمول و السلبية و التخلف و يقتل كل محاولة للنهوض.

شيبتني هود و أخواتها

إن سور يونس و هود و يوسف بهذا الترتيب الذي جاءت به في القرآن سور مترابطة فيما بينها، فبينما جاءت قصة يونس لتثبيت الرسول صلى الله عليه و سلم، كانت هود ذا وقع مختلف تماما عليه، فلغتها الشديدة  و سردها لقصص الأقوام الظالمة السابقة و صور العذاب التي تتضمنها أحزنت الرسول عليه الصلاة و السلام و جعلته يقلق على مصير قريش لأنه توقع لها نفس العذاب بسبب ظلمها و كفرها.

ثم جاءت سورة يوسف بلغتها الهادئة و مشاهدها العائلية الحميمة، فكانت قصة يوسف الذي تركه إخوته وحيدا مواساة للرسول الذي مات عمه و ماتت زوجته، كما قدمت له صور التمكين في الأرض و الانتصار على الظلم فكرة مغايرة للنجاح و هي الدعوة في مدن و قرى أخرى، مما مهد لهجرة الرسول إلى المدينة.

الصبر

في القرآن الكريم استعمالات عدة لكلمة الصبر و هي كلمة مشتقة من نبتة الصبار المعروفة بقوتها و إصرارها على الحياة بالرغم من صعوبة الظروف. إنها و بجدارة نبتة الأمل و الكفاح و الإيجابية. و أقدم استعمال لكلمة الصبر كما رأينا سابقا جاء في الآية "فاصبر لحكم ربك و لا تكن كصاحب الحوت"، و المقصود هنا ليس الصبر الاتكالي المهدئ و إنما الصبر الإيجابي المقترن بالعمل، إنه صبر أولي العزم من الرسل.

المشيئة الفردية

عندما نتحدث عن الإيجابية، يتبادر إلى ذهننا مفهوم المشيئة الفردية، ففي المجتمع الجاهلي كانت المشيئة الوحيدة المهيمنة هي المشيئة القبلية أو سلطة القبيلة، أما عندما جاء الإسلام فقد قدم منظومة جديدة تعتمد على حرية الفرد و قدرته على اتخاذ قراره و امتلاك إرادته و تحمل مسؤولية أفعاله. إلا أن المشيئة الفردية يجب أن ترتبط دائما بالمشيئة الإلهية، ففي هذا توكل على الله تعالى و اعتراف بقدرته و حكمته في تدبير شؤون خلقه. 

الإيجابية في المدرسة القديمة

كالعادة حاولت المدرسة القديمة قتل مفردات الإيجابية بالتأويل التقليدي لحديث "ما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس"، ففسروه على أنه تواضع من الرسول، في حين يعتقد الكاتب أن الحديث إنما هو تأكيد على:
  1. النهي عن الغلو في الإطراء و الثناء على الرسول. 
  2. الامتناع عن المفاضلة بين الأنبياء عموما. 
  3. التأكيد على إنسانية الأنبياء و إمكانية ضعفهم.

و هناك تأويلات أخرى كثيرة اعتمدتها المؤسسة و ساهمت بقتل الإيجابية منها:
  • تصوير الصحابة و الصالحين على أنهم أناس خارقون معصومون من الخطأ، و هي صورة خيالية محبطة تؤدي بالناس إلى اليأس لأنهم لن يستطيعوا يوما بلوغ مرتبة الرجل الخارق في العبادة و الزهد، و هذا ضد روح الإسلام. 
  • الفهم الخاطئ للعمل الصالح و اختزاله إلى العمل بالأركان و العبادات. 
  • اعتبار التجارة من أسمى الأعمال، مع أنها كما نراها اليوم لا تعدو كونها حلقة من حلقات الاحتكار العالمي و نشر ثقافة الاستهلاك، إنها ليست تجارة تعتمد على الإنتاج و تحقيق الاستقلالية و الاكتفاء الاقتصادي، بل هي تجارة سلبية كتجارة الترانزيت التي امتهنها عرب الجاهلية.

مسألة القدر

إن المفهوم الجاهلي للقدر هو أقرب إلى الجبر الذي يلغي إرادة الفرد و استقلاليته، لكن الخطاب القرآني هدم هذا المفهوم و عوضه بمفهوم الإيمان بالعمل و التغيير و الثورة على الأوضاع مع ربطها بمفهوم التكليف و الجزاء.

و نظرا لخطورة هذه المسألة، حاول الفكر التقليدي أن يظل محايدا و اعتمد مصطلحات فلسفية تعقد الأمور أكثر مما تشرحها، و تقفز إلى استنتاجات غير منطقية في محاولة لإسكات السائل، و هذا ما جعل الغموض يلف مسألة القدر إلى يومنا هذا.

الحس المقاصدي
الإسلام دين توحيد

لم تكن العرب تفتقر إلى كيان سياسي و نظام اجتماعي موحدين فقط، بل كان الاختلاف يطال الدين أيضا، حيث كانت كل قبيلة تعبد آلهة مختلفة عن القبائل الأخرى. و هذا يعكس الفوضى التي كان يعيشها الإنسان الجاهلي، فقد كان منغلقا في صندوق قبيلته عاجزا عن رؤية ما وراء ذلك و غير قادر على تخيل مقصد و غاية لحياته. فجاءت عقيدة التوحيد لتلغي هذا التشتت و تجمع العرب على نظام سياسي و اجتماعي واحد و على عبادة إله واحد لا شريك له.

الغاية من الخلق

من أبرز ما يميز معتقدات الجاهلية هي غياب قصة للخلق، مما شكل خللا في رؤية الجاهليين لأنفسهم وفهم العلاقة مع محيطهم وتحديد الغاية من وجودهم.

أما أهل الكتاب فقد كان لهم قصة للخلق إلا أنها و إن بدت مشابهة للقصة القرآنية فهي تختلف معها في عنصرين أساسيين. أولا : إن سجود الملائكة الذي ذكر في السياق القرآني و لم يذكر قبل في الكتب السماوية الأخرى، ساهم في إدراك مكانة الإنسان بين المخلوقات و خاصة الملائكة التي كان يعتبرها أهل الكتاب أعلى منزلة منه. ثانيا: وضح السياق القرآني في سابقة من نوعها الهدف من خلق الإنسان و هو خلافة الأرض، و المقصود بالخلافة هو استخدام الإنسان لكل ما سخره الله له من مخلوقات لتعمير الأرض و خدمة البشرية.

و هذا الاستخلاف مشروط بشرطين أساسيين هما الإيمان و العمل الصالح، فالإيمان دون عمل سيكون بمثابة شعار أو نظرية غير قابلة للتطبيق، و العمل الصالح بدون إيمان سيكون فارغا من كل قيمة معنوية و غاية سامية و سيذهب هباء منثورا.

و قد يظن البعض هنا أن الخلافة متناقضة مع الهدف الآخر من خلق الإنسان و هو العبادة، و لكنهما في الحقيقة هدفان متكاملان و وجهان لعملة واحدة.

العلاقة بين الفعل و القصد

في سورة البقرة مثال حي يكرس التلاحم بين العبادة و القصد وراءها، فذبح البقرة الذي أمر به بنوا إسرائيل كان عبادة الهدف منها معرفة القاتل الذي يبحثون عنه، لكنهم بدل التركيز على المقصد، غالوا في أسئلتهم عن البقرة و نسوا الموضوع الرئيسي.

ما نتعلمه من هذه السورة هو أن كل شعائر الإسلام و عباداته لها مقاصد اجتماعية و المفروض أن يكون تركيزنا و اهتمامنا منصبا على تطبيق هذه المقاصد، لا أن ننشغل عنها بالتفاصيل التي قد تؤدي بنا إلى نسيان الهدف منها. و قد فهم عمر هذا جيدا فطبقه أثناء فترة حكمه، فبالرغم أنه غير بعض الأحكام التي قد يبدو في ظاهرها أنها مخالفة للشرع، إلى أنها في جوهرها تطابق تماما روح الدين و مقاصده.

الفقه المقاصدي

إن تجميد الفقه المقاصدي كان من أكبر الخسائر التي مني بها الفكر الإسلامي، حيث تم أحيانا فهم نصوص القرآن و السنة مستقلا بعضها عن الآخر، وعوملت أحيانا أخرى بتساو تام و مطلق فيما بينها. و هذا أبعد ما يكون عن الفقه المقاصدي الذي تميز به عمر، و الذي يربط بين كل النصوص و ينظر إليها في شموليتها.

إلا أنه للإنصاف، الكثير من العلماء حتى المنتمين إلى الفقه التقليدي، حاولوا تأصيل الفكر المقاصدي كالعز بن عبد السلام و ابن تيمية و ابن القيم و القرافي و على رأسهم الإمام الشاطبي.

شروط النهضة

إن كل محاولة للنهضة تحتاج بالضرورة إلى تجديد يعيد تفعيل النص الديني و تنقية الموروث من سلبيات و تراكمات عصور الانحطاط، إلا أنه يجب الاحتراس من المساس بالرموز الفقهية التاريخية و التعامل معهم بشكل محايد و منصف.

و هذه النهضة الكل مسؤول عنها، و من يحسب نفسه بعيدا عما يحدث من حوله فهو واهم، لأن أبناءه، فلذات أكباده هم أول من سيدفعون ثمن سلبيتهم و يعانون من ويلات التخلف الذي نعيشه.


 آمال