Saturday, December 24, 2022

كرة.. و أشياء أخرى

مونديال 1998، ربما كان هذا آخر مونديال أتابعه. كنت صغيرة حينها و كنت جد متحمسة للمنتخب الوطني، و لكني للأسف صدمت من أول مقابلة، كانت ضد البرازيل و ما أدراك ما البرازيل! و ما أدراك ما رونالدو في تلك الأيام! انتهت المباراة بثلاثة لصفر، لصالح البرازيل طبعا، و من شدة التوتر لم أستطع حتى أن أكمل المباراة. أدى المغرب في المقابلات التالية أداء جيدا ولكنه لم يمكنه من التأهل للدور الموالي كما كان متوقعا. منذ ذلك الحين، لم أتابع أي مونديال بعده، ولا أبالغ إن قلت أنني لا أدري إن كان المغرب قد تأهل لمونديال آخر بعد ذلك أم لا. موقفي ذاك كان لسببين رئيسيين، أولهما أني فقدت الثقة في أن يقوم المغرب أو أي دولة عربية بأي إنجاز، و الثاني أنني بدأت أقتنع أن كرة القدم مجرد لعبة يلهون بها الشعوب حتى ينسوا مشاكلهم و همومهم، إنها في النهاية لعبة سياسية عرفت اللوبيات الكبرى كيف تستغلها لصالحها.

بالرغم من عدم اهتمامي بالكرة، و لكني كنت أعرف على الأقل أن قطر هي التي ستنظم المونديال في هذه السنة، لأن الصحافة العربية و الغربية أغرقونا بالدعايات سواء تلك التي تساند قطر أو التي تهاجمها قبل حتى أن تحضر المونديال. كالعادة لم أهتم إن كان المغرب مشاركا أم لا، و لكني عرفت في  النهاية. و على العموم، لم أكن أنوي أن أتابع أخباره لأني كنت أتوقع خروجه المبكر منذ البداية، فما الداعي للتوتر و إضاعة الوقت و حرق الأعصاب؟ 

لم أشاهد المباراة الأولى طبعا، و لكني علمت بعدها أن المغرب تعادل مع كرواتيا، وصيفة فرنسا في المونديال السابق. ضربة حظ! هذا ما قلته حينها، تماما كما فازت السعودية على الأرجنتين، و فازت تونس على فرنسا. 

و جاءت المباراة الثانية ضد بلجيكا، التي احتلت المرتبة الثالثة في المونديال السابق. لم أحتج أن أحضر المباراة لأن المقهى المجاور لبيتي كان كفيلا ليطلعني على النتيجة أولا بأول. فكلما أحرز المغرب هدفا كان المقهى يقوم و لا يقعد. لا أنكر أني هنا بدأت أهتم قليلا بالأمر، بدأت أبحث للتأكد من النتيجة، و اندهشت لأنهم استطاعوا الفوز بهدفين للا شيء، مما وضعهم في ترتيب جيد مع باقي المجموعة. تساءلت، هل فعلا يمكنهم فعلها هذه المرة؟ من يدري؟ على العموم، ما تزال مباراة أخرى مع كندا قد تقلب موازين الأمور، لا داعي لأن أفرح دون داع. 

ها قد مرت المباراة الثالثة مع كندا، و ها نحن نفوز مرة أخرى. ما هذا؟ هل الأمر جاد؟ هل فعلناها و تأهلنا للدور الموالي؟  كنت خائفة حتى أن أصدق. بحثت عن الخبر في الأنترنت و وسائل التواصل، فوجدت أصداء مدهشة عن المنتخب المغربي و المستوى الاحترافي الذي لعبوا به في المباريات الثلاثة، و الكل كانوا يجمعون أن تأهلهم لم يكن صدفة بل كان عن استحقاق. كل هذا جميل، جميل لأي شخص يجتهد في ميدان ما أن يحصد ثمار ما قدمه و أن يعترف الناس بالمجهود الذي بذله. و لكن كل ذلك ليس هو ما شدني شخصيا، بل شدتني أشياء أخرى بعيدة تماما عن لعب الكرة. أولها الروح الجميلة بين لاعبي الفريق الذين بينوا للجميع أنهم لا يلعبون فقط من أجل مجدهم الشخصي، بل من أجل هدف أكبر وحّدهم و جعلهم يدا واحدة و استطاعوا بسببه فرض هيمنتهم على الملعب.  و ثانيها الاحترام و الحب اللذان كانا جليين في تعاملهم مع مدربهم، المدرب الذي صنع المعجزة و جمع فريقا من هنا و هناك في ثلاثة أشهر فقط و نجح في بث الألفة و الانسجام بينهم، و أقنعهم أن الحلم يمكن تحقيقه. 

و ثالثها تلك اللقطات الرائعة للاعبين مع أمهاتهم و آبائهم، لقطات لم أر مثلها من قبل في مباريات كرة القدم، و حتى إن كانت قد حدثت فهي مبادرات فردية. أما هم، فقد أظهروا للناس أنها ثقافة الفريق بأكمله، فلم تكن تخل مباراة من هذه اللقطات، فهذا يقبل جبين والدته، وذاك يعانق أباه و آخر يرقص مع أمه وسط الملعب. شيء في منتهى الروعة أن تعترف أمام الجميع أن كل ما وصلت إليه من نجاح لم تكن لتصل إليه لولا أمك و أبيك.


و رابعها سجودهم لله بعد كل مباراة. و لست أناقش هنا إن كان ذلك جائزا أو لا من الناحية الشرعية، لأنه ليس تخصصي. و لكنها تبقى صورة جميلة لمجموعة من اللاعبين يسجدون في نفس الوقت شكرا لمن خلقهم و رزقهم و من عليهم بالفوز.

و أخيرا و ليس آخرا، عدم نسيانهم لقضية العرب و المسلمين أجمعين، قضية فلسطين. فمن المدهش فعلا أن ترى علم فلسطين يرفرف على ظهور اللاعبين، حتى الذين يعيشون منهم في الدول الأوروبية.

من هؤلاء الشباب؟ من أين جاءوا ليعطونا دروسا في الأخلاق و العروبة و الإسلام، و يغيروا الصورة النمطية للاعب كرة القدم الذي لا يهمه إلا المجد الشخصي أو الوطني على أكثر تقدير. 

المهم، صعد المنتخب إلى دور الستة عشر، الحمد لله و شكرا لكم، و لا ننتظر منكم أكثر من ذلك.

بالرغم من انبهاري بما حدث، ولكنني كنت شبه متأكدة أن المباراة مع إسبانيا ستكون مختلفة، و أن هذه الأخيرة ستكون لنا بالمرصاد. و لكن حدثت المعجزة ! نعم إنها معجزة ! قام الفريق بمجهود خرافي لمنع المنتخب الإسباني من التسديد طيلة مائة و عشرين دقيقة. كان الجميع على أعصابهم. هل سننجح مرة أخرى؟ غير معقول! حان وقت ضربات الجزاء. ضربة الجزاء الأولى للمغرب، هدددددف. ضربة الجزاء الأولى لإسبانيا، صدتها العارضة! مستحيل! الضربة الثانية للمغرب، هدف آآآخر! الضربة الثانية لإسبانيا، صدها الحارس!!! ما هذا؟ ما الذي يحدث؟  الضربة الثالثة للمغرب يصدها الحارس. الضربة الثالثة لإسبانيا يصدها الحارس مرة أخرى!! هل أنا أحلم ؟ و أخيرا الضربة الفارقة، العالم العربي كله يتطلع إلى حكيمي، و ها هو يسجل، و ها هو هدف الفوز! مستحيل!! ما يحدث معجزة بكل المقاييس! لأول مرة تتأهل دولة عربية إلى الربع نهائي وسط فرح كل العرب و المسلمين.


و ها نحن نرى اللاعبين مرة أخرى يسجدون، و يبحثون عن أمهاتهم ليحتفلوا معهم، و ها هم يأخذون صورة للفريق مع علم فلسطين. لم أكن يوما أحلم أن أعيش مثل هذه اللحظات. صحيح أن الكرة في نهاية المطاف مجرد لعبة، و لكنها باتت تعني الكثير للناس، إنها تلك الكرة السحرية التي تجمع و تفرق. و اليوم هي تجمع المسلمين كلهم على فرحة واحدة. فرحت بالخصوص لأني رأيت المسلمين فرحين لأول مرة على نفس الحدث و في نفس الوقت، حتى اللاجئون منهم في المخيمات، و حتى المحاصرون في غزة، الجميع فرحون. منذ زمن بعيد، لم نشعر بهذا الفرح. الجميع كانوا يعرفون أنهم سيعودون لواقعهم المر و مشاكلهم، و لكن المهم أننا فرحون الآن، فلنستمتع إذن باللحظة، التي ربما لن تعود مرة أخرى.

سيخوض المغرب مباراة الربع النهائي ضد البرتغال. لن تكون مباراة سهلة، خاصة إن لعب رونالدو. كعادتي كنت متشائمة و لم أرد أن أشاهد المباراة لكي لا أتوتر. و لكن الفريق المغربي أثبت مرة أخرى و عن استحقاق أنه ليس سهلا و استطاع تسجيل هدف في شباك الخصم. و الجميع بعد ذلك كانوا ينتظرون انتهاء المباراة و فوز المغرب على أحر من الجمر. و ما أن أطلق الحكم صفارته حتى تعالت الهتافات في كل البلدان العربية و ملأت الاحتفالات شوارعها. الجميع فرحون مرة أخرى و لنفس السبب! شعور رائع لا يوصف. 

كل ذلك رفع سقف توقعاتنا، و بدأنا نحلم بأن نفوز بالمونديال. نحن الذين كنا متأكدين أننا سنخرج من أول دور بدأنا نتطلع للفوز بالمونديال!! 

لم يوفق المغرب في المباريتين المواليتين. كنا نطمع أن نذوق تلك الفرحة مرة أخرى، و لكن قدر الله و ما شاء فعل. المهم أن اللاعبين لم ينسوا أن يسجدوا لله شكرا حتى بعد هزيمتهم و المهم أن الشهادتين كانتا تدويان في الملعب بأكمله. إننا لا نعبد الله على حرف، نعبده و نحمده في السراء و الضراء. و المهم أننا كمسلمين بقينا في هذا السباق حتى آخر يوم في المونديال، بقينا حتى نظهر قيمنا و عقيدتنا و أخلاقنا للعالم بأسره.

شكرا للمنتخب المغربي على الصورة المشرفة التي قدموها للإسلام و المسلمين، شكرا على أنهم أتاحوا لنا الفرصة حتى نشعر بأحاسيس لم نحس بها من قبل، شكرا لأنهم ذكرونا أننا أمة واحدة، و أن قوتنا في إيماننا و عقيدتنا و أن قضايانا واحدة لن نحيد عنها. شكرا لكم و جزاكم الله خيرا !

الآن بعد أن انتهت هذه المغامرة الشيقة، ها نحن نعود، كل منا إلى واقعه و مشاكله و همومه و تحدياته. لن أغير فكرتي عن كرة القدم فهي ستبقى كما يسمونها "أفيون الشعوب"، و سأبقى كعادتي لا أتابعها و لا أتابع أخبارها. و لكنني ربما سأنتظر الآن المونديال القادم ! 

آمال