Thursday, February 27, 2014

دراسات في النفس الإنسانية ـ الجزء الأول




الكاتب : محمد قطب
عدد الصفحات : 382
دار النشر : دار الشروق

» و في أنفسكم أفلا تبصرون«
سورة الذاريات آية 21

مقدمة

في هذا الكتاب يحاول المؤلف أن يبين أن المنهج الإسلامي هو أعمق و أشمل المناهج من حيث نظرته إلى الطبيعة الإنسانية والتعامل معها، بينما بقية مناهج علم النفس هي مناهج قاصرة من حيث نظرتها إلى الإنسان فهي في كل نظرياتها تتناول أحد جوانب النفس البشرية وتعممها باعتبارها هي كل الجوانب.

كما يضع المؤلف نظريته عن النفس الإنسانية معتمدا على المعلومات التي وردت في القرآن، مع تأكيده أنه لا يزعم أنها هي النظرية الإسلامية و إنما هي نظرية إسلامية اجتهد فيها بمقدار ما فتح الله عليه من طاقة المعرفة.

و يشير إلى أنه لا يعتبر القرآن كتاب نظريات نفسية أو علمية أو فكرية، بل مهمة القرآن أسمى من ذلك، فدوره هو التوجيه لإنشاء هذه النظريات، و هو كتاب تربية و توجيه يكشف للإنسان بعض أسرار نفسه و الكون من حوله، و يدعوه إلى دراستهما ليزداد معرفة بهما.

أولا ... ما الإنسان؟
إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب، لأنها لا تلائمنا. لقد أنشئت دون أية معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ أنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، و شهوات الناس، و أوهامهم، و نظرياتهم و رغباتهم. و على الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، إلا أنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا و شكلنا  
ألكسيس كاريل


حسب المؤلف قبل أن نبدأ البحث في النفس الإنسانية يجب أن نجيب على بعض الأسئلة لكي نضمن أننا لن نشطح بعيدا عن الحدود التي يحددها وجود الإنسان و طبيعته و هي:  ما الإنسان؟ ما وظيفته؟ ما دوره في الحياة؟ ما طاقاته؟ و ما حدود هذه الطاقات؟ لأن الدراسة الشاملة للإنسان ضرورة تسبق البحث التفصيلي، فتنير له الطريق أكثر، تماما كما تفيد دراسة الجسم كاملا الدارس الذي يتخصص في القلب.

و يشير أن الدراسات النفسية الغربية تحاشت هذه الأسئلة بدعوى أنها مباحث فلسفية لا ينبغي الخوض فيها في علم النفس، لأن هذا الأخير يبحث الواقع النفسي غير مهتم بأي هدف خارج نطاق هذا البحث من شأنه أن يقيد الوصول إلى النتيجة، فكانت النتيجة الحقيقية لهذا التجاهل هو الجهل المطبق بحقيقة الإنسان كما قال ألكسيس كاريل.

ولقد أدت هذه الطريقة في البحث حسب المؤلف إلى ثلاثة أخطاء كبيرة:
  • لم تفض هذه الدراسات إلى وعي كامل بالإنسان المتكامل، بل معظمها كان عبارة عن دراسة لأجزاء متفرقة من الإنسان و اعتبار أنها تمثل الإنسان ككل . 
  • لم تميز هذه الدراسات بين الحالات السوية و الحالات المنحرفة، لأن ليس لها مقياس ترجع إليه لمعرفة الاستواء و الانحراف. 
  • دراسة النفس الإنسانية بمعزل عن الله، و سبب ذلك العلاقة العدوانية التي تربط الفكر الغربي بالآلهة في عهد اليونان القديمة، أو بالكنيسة في القرون الوسطى. فهذا أوجد في الفكر الغربي نفورا من الدين.

ثم يوضح  بعض المغالطات التي جاءت بها هذه الدراسات والنتائج الخاطئة التي ترتبت عنها، وفيما يلي ملخص لبعض هذه المغالطات و النتائج كما وردت في الكتاب و رد المؤلف عليها:

  • فرويد
ملخص النظرية
- اعتبر فرويد العقل الباطن أو اللاشعور هو الإنسان الحقيقي، أما العقل الواعي هو إنسان مزور و مفروض على الإنسان الحقيقي من خارج نفسه و كيانه، و يفرضه عليه المجتمع أو القوى الخارجية من دين و أخلاق  و تقاليد و قوة و سلطان. و تعني هذه النظرية أن الكيان الحقيقي للإنسان هي الطاقة البهيمية البحثة، و كل تعديل أو تشكيل أو تربية ليس داخلا في هذا الكيان الحقيقي و إنما مفروض من لدن قوى عدوانية خارجية هدفها تحطيم الكيان الحقيقي.
- أعطى فرويد لهذا الكيان الحيواني لونا جنسيا صارخا، فجعله يأكل و يشرب و يتحرك و يصارع بلذة الجنس، فصار الطفل يرضع بلذة جنسية، و يحس نحو أمه بدافع جنسي ...

رد الكاتب عليها
أغفل فرويد حقائق نفسية علمية:
- العقل الواعي جزء من بنية النفس الإنسانية كالعقل الباطن سواء و موجود في داخل كيانه و ليس مفروضا عليه من الخارج. و العوامل الخارجية لا تملك أن تخلق شيئا جديدا في النفس بل كل ما تفعله أن تشكل شيئا موجودا من قبل.
- المجتمع و الميل إليه و الخضوع له عوامل نابعة من داخل النفس و ليست مفروضة عليها من خارجها، فالرغبة في الاجتماع بالآخرين هي التي تنشئ المجتمع.
- الموانع و الكوابت التي تنشئ القيم العليا ليست جزءا خارجا عن كيان الإنسان أو مفروضة عليه، فهناك استعداد فطري في النفس لتقبل هذه الموانع و إنشاء القيم العليا، فالضغط الخارجي لا يمكن أن يخلق شيئا جديدا في النفس بل يعمل على إبرازه و تشكيله.
-  الدافع الجنسي في الكيان البشري يزيدنا علما بأغوار النفس البشرية غير أن الإصرار على تفسير كل الكيان البشري بالارتكاز على هذا الدافع فيه مغالطة كثيرة تبعدنا عن هدفنا و هو فهم النفس حق الفهم، ويهبط بالإنسان إلى مرتبة أوضع من الحيوان نفسه الذي يأكل بدافع الأكل و يشرب بدافع الشرب و يصارع للبقاء؛ أما الإنسان حسب فرويد فهو كائن جنسي محض و هذه نظرة مجزئة للنفس الإنسانية .

  • أدلر
ملخص النظرية
الدافع الحيوي للفرد هو شعوره بالتفوق في ناحية معينة إزاء الجماعة
رد الكاتب عليها
حقيقة جزئية في النفس البشرية تماما كالدافع الجنسي عند فرويد

  • يونج
ملخص النظرية
الدافع الحيوي للفرد هو الشعور بالنقص و محاولة التعويض
رد الكاتب عليها
حقيقة جزئية في النفس البشرية تماما كالدافع الجنسي عند فرويد

  • المدرسة التجريبية
ملخص النظرية
تتناول دراسة الإنسان من الجانب الجسدي الذي تستطيع أن تقيسه بالمقاييس المادية و إدراك الحواس
رد الكاتب عليها
هذه المدرسة تقف عاجزة عن تفسير كل شيء لا يقع في دائرة المحسوس أو الجسد، فهذه المدرسة بإمكانها أن تقيس التعب أو النشاط و تأثير الغدد في المشاعر و الحالة النفسية، و لكنها تعجز أن تقيس إحساس الإنسان بالحق و العدل و الجمال و الإبداع ...

  • المدرسة السلوكية
ملخص النظرية
تفسر هذه المدرسة الإنسان على أنه مجموعة من العادات، و ردود الفعل الشرطية المنعكسة التي تنميها البيئة أو لا تنميها، و التي لا يختلف بعضها عن بعض إلا باختلاف المؤثر...
رد الكاتب عليها
تحيل الإنسان إلى الحيوان، فترد سلوكه الى أسباب فسيولوجية، و ترد التعلم إلى الأفعال و ردود الأفعال ذات الطابع الحسي البحت، فكأن الإنسان لا فكر له، و لا إرادة و لا مثل و لا قيم عليا و لا مشاعر رفيعة...

  • المدرسة الميكانيكية
ملخص النظرية
تفسر الحياة بما في ذلك الحياة الإنسانية بقوانين الطبيعة و الكيمياء و كأن الإنسان آلة محكومة بضرورات ميكانيكية.
رد الكاتب عليها
هذه المدرسة تنفي عن الإنسان كل إرادة موجهة أو مشاعر نبيلة، فالضرورة هي التي توجه أفعاله.

وللإجابة على الأسئلة التي طرحها الكاتب في البداية، أورد بعض الآيات القرآنية و استخلص منها ما يلي:
  • الإنسان هو مخلوق متفرد، فلا يمكن فهمه كما يفهم الحيوان أو الملاك 
  • الإنسان له دور خطير في الكون و هو الخلافة في الأرض 
  • الإنسان مخلوق مزود بطاقات و من أهمها طاقة المعرفة و طاقة الإرادة الضابطة و طاقة القوة الفاعلة المتضمنة في معنى الخلافة، و طاقة الصراع و القدرة على التوجه إلى الله، و تلقي كلماته و تتبع هداه و القدرة على الاستقرار 
  • الإنسان مخلوق مشتمل على نقط ضعف و هي حب الشهوات و نسيان الهدى و الكفر بآيات الله 
  • الإنسان مخلوق ذو طبيعة مزدوجة

طبيعة مزدوجة
" إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين، فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين "
سورة (( ص )) آية71-72


حسب الكاتب أبرز ما يميز الإنسان أنه كيان مزدوج الطبيعة فالحيوان و الملك مخلوقات لهما طبيعة واحدة فقط؛ أما الإنسان فهو عبارة عن:

قبضة من طين الأرض:  فالعلم بين أن جسم الإنسان مكون من نفس مكونات طين الأرض من أكسيجين و هيدروجين و كربون و حديد و نحاس و كلسيوم.. الخ
كما أنه بين أيضا أن مطالب الجسد و ألوان نشاطه أمران يرجعان إلى التركيب البيولوجي للجسم كالجوع و العطش و الجنس و غيرها، و الحقيقة الجسدية ظاهرة ترى و تلمس.

و نفخة من روح الله: تتمثل في الوعي و الإدراك و الإرادة، و في كل القيم و المعنويات التي يمارسها الإنسان من خير و رحمة و تعاون و إخاء.. الخ. و هذه الحقيقة خفية ليست ظاهرة إلا من خلال نتائجها من رغبات و معاني يمارسها الإنسان.

و هذان المكونان لا يعملان كعنصرين منفصلين بل مختلطان ممتزجان مترابطان في كيان واحد مزدوج الصفات. و نتيجة لذلك فإن الإنسان في حالته السوية يؤدي نشاطه الجثماني على طريقة الإنسان لا الحيوان. ويؤدي نشاطه الروحاني على طريقة الإنسان لا الملاك. و أعطى أمثلة عديدة على هذا الاختلاف و أكتفي للتوضيح بالمثالين التاليين:

1. فالإنسان يأكل و هي عملية مشتركة بينه و بين الحيوان، لكن هناك اختلافات عديدة بينهما:
  • الحيوان يتناول في الغالب أنواع محددة من الطعام تحددها غريزته لكن الإنسان يتناول أنواع مختلفة من الطعام
  • الإنسان يختار سلوكه نحو الطعام، فرغم كون الحاجة البيولوجية هي الدافع تماما كالحيوان إلا أنه مثلا ينظم مواعيد الأكل بمحض الإرادة، كما يملك أن يمتنع عنه عند الصيام أو الحمية، كما يتفنن في إعداد الطعام و تحويله، و تختلف طريقة الأكل و أدواته أيضا فمن الناس من يأكل بشراهة و منهم من يأكل بلطف، و منهم من يحبذ الأكل مع الجماعة و منهم من يأكل منفردا بمحض الإرادة، كما أن هناك معنى يوصف به الطعام كالحلال و الحرام، الحلو و المر ...

2.  و من جهة أخرى فالإنسان يحس بأشواق عالية و روح مرفرفة، يحس برغبة في الاتصال بالله، و الاتصال بالكون و الاتصال بغيره من بني الإنسان، و الفارق بينه و بين الملك أن هذه اللحظات الروحانية و العاطفية غير مفروضة عليه بل تكون بمحض اختياره، كما أنه لا يصبر عليها أكثر من لحظات إذ تحتم عليه ضرورات الجسد من تعب و جوع و رغبات العودة إلى المحسوس. و مهما حاول الإنسان أن يتسامى فإن الضرورات الحسية تجعله يعود إلى العالم الحسي مهما طالت المدة. 

و يؤكد المؤلف أنه لا يمكننا أن نفهم الإنسان حق المعرفة إلا إذا اعتبرناه كيانا موحدا متشابكا معقد التركيب برغم ما في طبيعته من ازدواج، فالإنسان مثلا عندما يعمل فهذا نشاط جسدي إلا أن هذا النشاط يستجيب بالضرورة إلى هدف معنوي حتى و إن لم يكن مدركا له أثناء العمل، كما أن الإنسان و هو يتعبد فإن هذه العبادة تؤثر على جسده حتى و إن لم يحس بها فورا. و تجاهل هذه الازدواجية بما فيها من تشابك و ترابط هو الذي أدى حسب الكاتب إلى المغالطات التي نتجت عنها الدراسات التي قامت بها مختلف المدارس الغربية السابقة الذكر.

أما الإسلام فهو الدين الوحيد الذي تمشى مع الفطرة البشرية كما خلقها الله، فطرة الطين و نفخة الروح و ذلك في كل ما يصدر منهما من مشاعر و أفكار و أعمال. و يعطي عدة أمثلة على ذلك من خلال الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم فيما يخص الأكل و الجنس و العمل و العبادة بكل أشكالها، كل ذلك شرع له الإسلام بما يتماشى مع هذه الازدواجية في التكوين.

خطوط متقابلة في النفس البشرية

يشير الكاتب أن هناك خطوط دقيقة متقابلة و متوازية في التكوين البشري، كل اثنين منهما متجاوران في النفس و في الوقت ذاته مختلفان في الاتجاه، لكنهما أيضا مترابطان و كلها مجتمعة تنشئ التوازن في كيان الإنسان:

 
ويؤكد الكاتب على أنه لا يمكنه الجزم بأي شيء يقيني في كيفية نشأة هذه الخطوط في الإنسان، ولا أنه لا يوجد غيرها، لكنه يملك فقط أن يصف هذه الخطوط و آثارها في كيان الإنسان و حياته و هذا ما فعله في هذه الفقرة. فلقد شرح كل خطين متقابلين على حدة ثم بين مقدار التشابك بين كل زوجين و بين أكثر من زوج، و خلاصة القول أنه يرى أن هذه الخطوط العجيبة تربط الكائن البشري بالحياة كأنما هي أوتاد تشد الكيان كله و تربطه من كل جانب، كما أن مهمتها الكبرى هي إنشاء التوازن.

ثم بين المؤلف أن هناك دوران مهمان  لهذه الخطوط:
  • فهي بمثابة الأعصاب في الجسم، فهي تمتد إلى كل جزء من أجزاء النفس ثم تتجمع في الكيان النفسي الموحد لكي تنقل إليه الإشارات من هذا الكيان الموحد إلى الأجزاء، و من الأجزاء إلى الكيان الموحد، فيحس الإنسان بكل شيء يقع في نطاق شعوره، و يدرك كل ما يتاح له إدراكه. و بهذه الأعصاب النفسية المتداخلة المتشابكة يتذوق الإنسان عددا لا يحصى من مشاعر الوجود. و هذا التنوع هو الذي يجعل الإنسان يعمل في المادة بيديه، و في القيم بنفسه، و في العقيدة بروحه.. 
  • كما أنها تعمل على إنشاء روابط متعددة بين الإنسان و الحياة، لأن الإنسان لكي يؤدي دوره الضخم في الحياة لابد وأن يرتبط بها بأكثر من رباط عميق لكي يستطيع أن يقاوم العقبات  الكثيرة في طريقه و ينتصر في معركة الكدح في الحياة، و على قدر ما تشتبك نفس الإنسان بالكون و الحياة تزداد قيمته فيهما و على قدر ما تنفصم هذه الرباطات يتضاءل دوره فيهما.

و لقد استفاض الكاتب في شرح كل هذه الخطوط على حدة أو و هي مترابطة و أكتفي هنا بالخطين اللذين يعتبرهما الكاتب من أوسع الخطوط و أعمقها في النفس و يبين ثلاثة اختلافات بينه و بين فرويد. و لمزيد من المعلومات المهمة لا مناص من الرجوع إلى الكتاب:
  • الخوف و الرجاء:  يرى المؤلف أن هذين الخطين هما أوسع و أعمق الخطوط المتقابلة في النفس البشرية، و هذه أول نقطة اختلاف بينه و بين فرويد الذي ركز على الحب و الكره. فحسب الكاتب الطفل قبل أن يتعلم الحب و الكره، و هما شعوران يتجهان نحو الخارج أي الآخرين  فإنه يحس إحساسا فطريا بالخوف على ذاته من الظلام أو الأصوات أو الوجوه غير المألوفة،  و كذلك فإنه يحس بالأمن في حضن مرضعته.  و حسب الكاتب فإن هذا منطقي لأن ذات الطفل في بادئ الأمر هي عالمه كله، و الخوف عليها و طلب الأمن لها شعوران منطقيان و ذلك قبل أن يعلم من هي أمه أو مرضعته أو يدرك ماهية الثدي الذي يطعمه و قبل أن يتعلم أن يكره أو يحب شيئا.  و الخطان يمكن أن يعملا معا في نفس الوقت فليس بالضرورة أن يقصي أحدهما الثاني، فمثلا الطفل الذي يتشبث بالثدي و الحضن و الراحة و الأمن فإنه  يرجوه و يخاف أن ينتزع منه، لكنه إذا اطمأن إلى وجوده في شفتيه فقد ينسى مؤقتا الخوف على ضياعه. و هو بذلك لا يحتاج إلى أن يكبت هذا الخوف في اللاشعور لأنه موجود مع الرجاء في دائرة الشعور و هذه ثاني نقطة اختلاف مع فرويد الذي يرى أن كل المكبوتات المفروضة على الإنسان تذهب إلى اللاشعور. أما نقطة الاختلاف الثالثة مع فرويد ففي كون هذين الشعورين لا يرتبطان بالجنس إطلاقا.

و يرى الكاتب أن هذه الخطوط فطرية و تحتاج إلى التهذيب، فكل هذه الخطوط معرضة إلى الشذوذ و الانحراف إذا لم نقم بتهذيبها و تقويمها، فكثير من الاختلالات التي تعاني منها البشرية اليوم سببها اختلالات في طريقة التهذيب. أما الإسلام الذي هو دين الفطرة فإنه يعالج هذه الخطوط بطرق كثيرة. ثم أورد بعض النماذج المتفرقة لهذه المعالجة فيما يخص الخوف و الرجاء، و الحب و الكره و السلبية و الإيجابية وغيرها و ذلك عبر الاستشهاد بآيات من القرآن الكريم.

الدوافع و الضوابط


كما رأينا فيما سبق الخطوط المتقابلة في النفس البشرية، حسب الكاتب هي منافذ تنطلق من خلالها الطاقة الحيوية للإنسان، الطاقة الدافعة فتأخذ الأحاسيس لون العصب الذي تمر فيه، فتصبح ألما أو لذة أو حرارة أو برودة..

ويطرح الكاتب هنا العديد من الأسئلة حول هذ الطاقة الحيوية: ما هي؟ هل هي تفاعل كيميائي أو كهربائي؟ أين تسكن؟ أم هي ببساطة اسمها نفس؟ و ماهي هذه النفس أصلا؟ و كيف تتحول رغبة نفسية إلى جسدية و غيرها من الأسئلة. ثم ذكر بعض الآراء في هذا الموضوع وأكد على أنها ليست سوى اجتهادات قاصرة و غير كافية، فيما يلي بعض هذه الآراء:
  • المدرسة التجريبية: النفس انعكاس لنشاط الجسم، و النشاط الحيوي و الشعوري جسدي كله، و المشاعر هي نتيجة التفاعلات الكيميائية التي تحدث في الغدد و الأعضاء و كذا النشاط الكهربي.
  • المدرسة النظرية: هناك غرائز و دوافع فطرية وهي نفسية في أساسها و لها مظاهر جسمية هي التعبير المحسوس عن الطاقة النفسية الأصيلة.

ثم يضيف بأن القوى الدافعة ليست وحدها التي تكون بناء النفس؛ بل هناك قوة ضابطة هي أيضا أصيلة في النفس.

الدوافع
  »زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين و القناطر المقنطرة من الذهب و الفضة و الخيل المسومة و الأنعام و الحرث. ذلك متاع الحياة الدنيا و الله عنده حسن الثواب « 
سورة آل عمران آية 14

حسب المؤلف فإن الكيان المكون من طين وروح لا بد له من وقود ليتحرك و يبدع و يستغل الطاقات التي وهبها الله له من أجل القيام بدور الخلافة، ويرى أن الدافع الأكبر في الكيان البشري هو حب الحياة و الاستمتاع بها، و هو يشمل فرعين رئيسيين:

و كل هذه الدوافع الفطرية تحمل معها قوتان دافعتان، قوة من الخلف وهي قوة الألم و قوة من الأمام و هي قوة اللذة. و أعطى بعض الأمثلة على ذلك كالأكل مثلا، فالخوف من الجوع هو الذي يدفع الإنسان إلى الأكل و لكن اللذة التي يحدثها الطعام تجذبه أيضا..

الضوابط
» ... و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة «  
سورة النحل آية 78

يرى الكاتب أن الإنسان بدون ضوابط سيكون أقل حتى من الحيوان الذي لديه ضوابط غريزية بمثابة صمام الأمان له. لكن الإنسان لديه ضوابط فطرية تولد معه، تولد كامنة في كيانه و لكنها لا تظهر في مبدأ الأمر كما تظهر الدوافع. ثم إنها في حاجة الى مساعدة خارجية ليتم لها النماء و النضج، و إلا بقيت ضامرة لا تؤدي وظيفتها كاملة في حياة الإنسان. وهذا يخالف ما قاله العلماء كفرويد مثلا الذين كانوا يرون أن الضوابط دخيلة على الكيان الإنساني وتصنعها القوى الخارجية؛  فبالنسبة للمؤلف الضغط الخارجي لا يمكن أن ينشئ شيئا جديدا في النفس ما لم يكن هناك استعداد فطري للاستجابة له. و أعطى أمثلة توضح فكرته : فالجوع مثلا دافع و مهما بلغت القوى الضاغطة على الإنسان لا يمكن أن ننشئ إنسانا لا يجوع أي خلق ضابط يضبط جوعه فلا يعود يحس بالجوع أبدا. فلكي يستطيع الإنسان أن يضبط دافعا عنده لا بد و أن يكون الضابط موجودا في الداخل، و ما يمكن أن تفعله القوة الخارجية سوى تطوير هذا الضابط.

و عملية توجيه و تهذيب الضوابط عملية ضرورية بالنسبة للإنسان، لأنها معرضة للانحراف أحيانا أو تتوقف. و هي تقوم بدور مهم و هي توجيه الطاقة الحيوية إلى مستويات أعلى و أرفع  من مجرد الاستجابة المباشرة لدفعة الغريزة.

الدوافع و الضوابط معا في حياة الإنسان

حسب الكاتب الدوافع و الضوابط تعملان معا في ذات الوقت، و ما دام الإنسان في حالته السوية التي لم يطرأ عليها خلل أو انحراف فهو قد يجنح بالدوافع تارة مفردة أو مجتمعة أو يجنح أخرى بالضوابط مفردة أو مجتمعة أيضا. و هذا الكيان المجتمع هو الذي يجعل حياة الإنسان تختلف عن حياة الحيوان، فهذا الأخير لا يعيش إلا بالدوافع وحدها و ضوابط الغريزة، في حين أن الإنسان لديه الضوابط الإرادية التي توفر القوة الفائضة التي تستعملها الدوافع و ذلك من أجل الإبداع و الإنتاج. كما أن هذا الكيان أيضا هو الذي يسمح بوجود غاية واعية و مدركة للحياة الإنسانية تضع حدا للاندفاع وراء الدوافع و الشهوات.

ولو اخترنا دافع حفظ الذات، فالجوع مثلا يدفع الحيوان إلى الطعام توا و يأكل نوعا معينا بالغريزة، التي تقرر أيضا حد الاكتفاء و يأكل بطريقة واحدة و بطريقة مكررة؛ أما عند الإنسان فالأمر يختلف، و وجوه الاختلاف ستة في كل الدوافع و الضوابط في حياة الإنسان سواء تعلق الأمر بالجوع أو بدافع آخر من جنس و حب ظهور و تميز و مأوى و قتال و غيرها، فحسب المؤلف هناك ستة وجوه لهذا الاختلاف:
  • سعة المجال و تعدد الطرائق 
  • الإنسان هو الذي يحدد حد الاكتفاء 
  • لا يأخذ الأمور على حالتها الخامة  
  • يختلف سلوكه من شخص لأخر 
  • وجود هدف و اختلافه من فرد الى فرد 
  • عدم الإحساس بالقهر إزاء الضرورة، فهو يملك الاستجابة للدافع أو لا و يختار وقت الاستجابة و طريقة الاستجابة.

و يرى الكاتب أن رعاية الإنسان لأبنائه و تربيتهم ، و كذا رعاية الله للإنسان بالرسل و الرسالات تدخل في باب تهذيب الفطرة البشرية و إلا انحرفت و هبطت عن المستوى الرفيع الذي أراده الله لها لتكون خليفته في أرضه.


Rachida KHTIRA

Software Engineer at the Moroccan Ministry of Finance.
Interests: Reading, travel and social activities.