Saturday, April 30, 2016

ما الإنسان ـ مناقشة الأفكار



يعتبر هذا الكتاب أول كتاب أقرأه لمارك توين، و لا أخفيكم سرا، لقد أدهشتني طريقة تفكيره المتمردة و نظرته اللاتقليدية للإنسان و النفس البشرية. لن أقول أن كل الأفكار التي يطرحها الكاتب أعجبتني و لا أني أتفق معه في الرأي، و لكنه جعلني أفكر كثيرا فيما أحسه و أفكر به كإنسان، بل و أتعبني التفكير في ذلك لأني إن وافقته فيما يقول من ناحية فسأحصر مثله الإنسان في دور الآلة، و من ناحية أخرى لا يمكن أن أنكر أن ما يقول فيه الكثير من الصواب فقد تمكن من التغلغل في النفس البشرية و تحليلها بشكل مبدع. شيء آخر أثارني في فكر الكاتب هو أنه في أحيان كثيرة يقترب من نظرة الإسلام للإنسان، بالرغم أن الفكرين ينطلقان من قاعدة مختلفة تماما و يصبان في هدف مغاير البتة، و لكني وجدت تقاطعات عديدة بينهما في الكتاب.

الكتاب عبارة عن حوارية بين شاب ذو فكر تقليدي و الذي يمثل في نظري القارئ، و بين شيخ ذو فكر متمرد يمثل فكر الكاتب. و حتى لا أطيل عليكم، دعوني أقدم لكم بعض الأفكار التي تطرق إليها الكاتب.

1. الإنسان آلة تقوم بكل شيء بطريقة أوتوماتيكية كرد فعل عن المؤثرات الخارجية، فكل أفكاره مثلا هي نتاج الأفكار التي قرأها في الكتب أو التجارب التي عاشها أو الحوارات و النقاشات التي خاضها، فالآلة العقلية لا تملك أن تبدع أفكارا من تلقاء نفسها و إنما تقوم فقط باستخلاص تلك الأفكار من مؤثرات خارجية. و هذا و إن كان يبدو و كأنه ينقص الإنسان قدره، إلا أن فيه شيئا من الصحة، لأن الله وحده هو القادر على الخلق من العدم، أما الإنسان فيحتاج دائما إلى مادة ينطلق منها ليصنع شيئا ما، و إبداع الإنسان يتمثل في كيفية تصرفه و تعامله مع المادة الأولية التي في حوزته، و هذا ينطبق أيضا على الأفكار. فكل اختراع بشري ما هو إلا مجموعة من الاكتشافات المتراكمة مع مرور الزمن، اكتشافات يدركها الإنسان أولا ثم يربط بعضها البعض ليستخلص مفهوما جديدا لم يسبقه إليه غيره.

2. في نفس السياق، يعتقد الكاتب أن الإنسان غير قادر على اتخاذ قراراته بمحض إرادته، و إنما هي الظروف التي تحثه على القيام باختياراته. قد نظن لأول وهلة أنه يتحدث هنا عن مسألة التسيير و التخيير، و لكن ليس الأمر كذلك، فالكاتب لا ينكر أن الإنسان يمكنه أن يختار و لكن المشكلة هي أن هذا الاختيار سيكون بالضرورة متأثرا بواقعه و الظروف المحيطة به و بالآخرين شاء أم أبى. و هو ما يشير إليه الكاتب ب "الاختيار الحر" في مقابل "الإرادة الحرة" التي ينفيها عن الإنسان. و لنأخذ كمثال على ذلك سيدة لا تهتم بالموضة مثلا، و لكنها عندما تريد شراء لباس جديد ستجد أن كل ما يباع في السوق يتبع الموضة و الناس في الشارع و التلفاز يتبعون الموضة و بالتالي فإن اختياراتها ستكون محدودة في ما اختاره لها صناع الموضة، و لو أنها تظن أن الاختيار نابع منها، و لكنه في الحقيقة نتيجة حتمية لهذا الحصار الذي أحكم عليها دون أن تدري.

3. كل القيم الإنسانية كالشجاعة و الكرم و التضحية هي نتاج للتربية و التدريب أي لمؤثرات خارجية و لا يختارها الإنسان أو يتحلى بها بمحض إرادته، و لذلك فهو لا يملك أن يتفاخر بها. كما أن كل ما يقوم به الإنسان من خير تجاه الآخرين دائما ما يكون مرتبطا بمصلحة شخصية روحية بالدرجة الأولى، كإرضاء الذات و الإحساس بالسعادة و الراحة النفسية و تجنب الإحساس بالذنب. قد تبدو هذه إهانة للإنسان بوصفه كائنا أنانيا لا يفكر إلا في راحته الشخصية و لكني أرى أن هذا رأي صائب إلى حد كبير. فالإنسان قد جبل على حب الذات، و ليستطيع التضحية بنفسه و إيثار الآخرين يحتاج إلى حافز قوي مرتبط هو الآخر بحب الذات كالحصول على مزيد من الحسنات و الظفر بالجنة حيث يجد ما طاب له من الملذات أو محو السيئات و تفادي العقوبة الإلهية و تجنب دخول النار.

4. العقل البشري يعمل بشكل مستقل عن صاحبه و هو الذي يقرر متى يفكر و في ماذا يفكر، و هذا يظهر مثلا في حالات الأرق حيث يحاول الإنسان جاهدا أن ينام و لكنه يجد نفسه رغما عنه مستسلما للتفكير في ما يمليه عليه عقله. و كذلك أحلام اليقظة التي تجعل الإنسان يسرح في أفكار لم يقرر مسبقا التفكير فيها. مثال آخر يثبت استقلالية العقل هي أنك عندما ترغمه على التفكير في موضوع صعب و متعب، فإنه يتهرب منه ليفكر في موضوع آخر أسهل. و الوصفة السحرية في نظر الكاتب للتحكم في العقل هي التعبير عن الأفكار إما بالحديث عنها أو كتابتها لأنك بذلك تضطره إلى التفكير في اتجاه معين و التركيز على موضوع بعينه.

5. يعتقد الكاتب أن لفظ الغريزة لا معنى له، و أن الحيوانات قادرة على التفكير مثلها مثل الإنسان، و مثال ذلك النمل الذي يبني بيوتا في درجة عالية من التعقيد قد يعجز الإنسان نفسه على تصميمها بل و يعيش ضمن نظام حكم و شورى ينفع أن يكون مثال يحتذى به من بني الإنسان. فما نسميه غريزة هو في الأصل فكرة بدأها الجيل الأول من الحيوانات و أورثها إلى الجيل الذي يليه الذي طورها و أضاف إليها، و هكذا. إذن فالتفكير لدى الإنسان و الحيوان متشابه و لكن من حيث النوع لا الدرجة و ذلك راجع إلى أن الإنسان يتميز بقدرات أخرى تساعده على تطوير تفكيره أكثر من الحيوان كالقراءة و الكتابة.

*******

في العموم، أعجبني التحليل المنطقي الذي اتبعه الكاتب لإثبات نظرياته، إلا أنني لاحظت أحيانا أن الكاتب وظف بعض الأمثلة ذات الطابع الخاص و حاول تعميمها لاستنباط نظرية ما، و هذه الطريقة قد لا تكون دقيقة دائما، فالمثال يجب أن يستعمل لإثبات النظرية لا لاستنباطها .تقييمي للكتاب إذن هو4/5.

آمال